مقدمة
في الوقت الذي يواجه فيه العالم تحديات بيئية وغذائية متزايدة، برزت قضية هدر الطعام كواحدة من أخطر المشكلات التي تهدد الأمن الغذائي العالمي. وفي هذا السياق، تتبنى الصين نهجًا شاملًا واستباقيًا للحد من هدر الطعام على جميع المستويات، من الزراعة إلى الاستهلاك، إدراكًا لأهمية الاستدامة وضمان الأمن الغذائي طويل الأمد لأكثر من 1.4 مليار نسمة.
1. خلفية وطنية ودوافع استراتيجية
تستهلك الصين كميات هائلة من الغذاء يوميًا، ومع النمو الاقتصادي والتمدن السريع، تصاعدت مظاهر الهدر الغذائي، خصوصًا في المدن والمطاعم والمؤسسات. أدركت الحكومة الصينية أن هذا الهدر لا يمثّل فقط إهدارًا لموارد طبيعية واقتصادية، بل يشكل تهديدًا لأهداف التنمية المستدامة.
ولهذا السبب، تم إدراج تقليل هدر الطعام ضمن استراتيجيات الأمن الغذائي القومي، خاصة بعد تقلبات الإمدادات العالمية الناجمة عن الكوارث الطبيعية، والأزمات الجيوسياسية، وجائحة كوفيد-19.
2. سياسات حكومية صارمة
أطلقت الحكومة المركزية عدة مبادرات لخفض الفاقد الغذائي، أهمها:
قانون مكافحة هدر الطعام (2021): يُعد خطوة تاريخية، حيث يفرض عقوبات على الممارسات المهدِرة، مثل الطلب المفرط للطعام في المطاعم.
تعليمات إدارية للقطاع الغذائي تُشجع المطاعم على تقديم كميات معقولة وتوفير خيارات “نصف الوجبة”.
دعم مالي وفني للقطاع الزراعي لتقليل الفاقد ما بعد الحصاد وتحسين سلاسل الإمداد والتخزين.
3. إصلاحات في سلاسل الإمداد الزراعي
الزراعة الذكية أصبحت محورًا في جهود تقليل الهدر:
تقنيات الحصاد الدقيقة تقلل من الفاقد في المزارع.
أنظمة تبريد متطورة وسلاسل توريد مبردة تساعد في الحفاظ على المنتجات الزراعية الطازجة خلال النقل.
رقمنة التوزيع من خلال منصات التجارة الإلكترونية التي تقلل من الوساطة وتوصل المنتجات مباشرة من المزرعة إلى المستهلك.
4. التحول في ثقافة الاستهلاك
التغيير لا يقتصر على السياسات فقط، بل يشمل أيضًا سلوك المستهلك:
حملات توعية قومية تحت شعارات مثل “نظف طبقك” لتشجيع الأفراد على تقليل بقايا الطعام.
إدماج مفاهيم مكافحة الهدر الغذائي في المناهج المدرسية لتعزيز الوعي لدى الأجيال الجديدة.
استخدام الإعلام والمؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي لتغيير الثقافة الغذائية.
5. التقنيات الذكية في المطاعم والمنازل
انتشار الذكاء الاصطناعي في إدارة المطابخ والمخازن التجارية، لضبط كميات الإنتاج وفقًا للطلب الحقيقي.
تطبيقات للهواتف الذكية لمساعدة المستهلكين في تتبع صلاحية المنتجات وتقليل الهدر المنزلي.
إدخال أجهزة تحليل الفاقد الغذائي في بعض المطاعم الكبرى لتحديد أسباب البقايا ومعالجتها.
6. مبادرات المدن الكبرى والمجتمعات المحلية
بكين، شنغهاي، وشنتشن أطلقت برامج “مدن خالية من الهدر” تتضمن مراقبة دقيقة لاستهلاك الغذاء في المدارس، الشركات، والمطاعم.
تعاونية بين البلديات والمزارعين لتحويل فائض الإنتاج إلى برامج إعاشة أو بيع مباشر بأسعار منخفضة.
7. التحديات المستقبلية
رغم التقدم الكبير، تواجه الصين عدة تحديات:
الحاجة إلى توحيد الجهود بين المناطق الريفية والحضرية لضمان اتساق النتائج.
صعوبة تغيير بعض العادات الثقافية المرتبطة بالكرم الزائد في الولائم والمناسبات.
التوازن بين الرفاهية الغذائية والحد من الهدر في مجتمع أصبح أكثر استهلاكًا.
1. إطلاق خطط وطنية وقوانين فعالة
في أواخر عام 2024، أصدرت الحكومة الصينية خطة عمل وطنية لمكافحة الفاقد والهدر الغذائي في جميع مراحل سلسلة الإمداد—من الزراعة والتخزين إلى النقل والمعالجة—بهدف خفض معدلات الفاقد إلى دون المتوسطات العالمية بحلول عام 2027في 2021، دخل قانون مكافحة هدر الطعام حيّز التنفيذ، يُلزم مقدمي خدمات الطعام بتذكير الزبائن بعدم الإفراط في الطلب ويفوِّضهم بفرض رسوم على البقايا الكبيرةكما طبّقت الصين قانونًا عام 2023 لتعزيز الأمن الغذائي وتعميق ثقافة حفظ الحبوب
2. حملات التوعية وتعديل الثقافة الاستهلاكية
حملة “افرغ طبقك” (Clean Plate Campaign) شهدت تجددًا في 2020 تحت رعاية مباشرة من الرئيس شي جين بينغ؛ تلتها توجيهات لتحجيم مظاهر الإفراط بالولائم الرسمية
حاليًا، توعية المستهلك باتت أكثر انتشارًا: محلات الطعام تشجع على تقديم نصف حجم الحصة (half-size)، وتطبيق أنظمة طلب محسوب، خاصة في مؤسسات الدولة والمدارس
3. من التصميم الزراعي إلى النشاط اللوجستي الذكي
تعمل الصين على تقليل النفايات على مستوى الإنتاج باستخدام تقنيات زراعية حديثة، مثل طائرات الدرونز وأنظمة الزراعة الدقيقة المدعومة بالبيانات الفضائية—مما يوفّر الغذاء المهدر ويُرفع الإنتاجية
ويُقدّر إجمالي الهدر في الحبوب الرئيسية (كالأرز والقمح والذرة) بنحو 8% طوال سلسلة التوريد
4. مبادرات التضامن الاجتماعي ومنصات إعادة التدوير
في بكين، ظهرت أولى “بنوك الطعام” لجمع المواد الغذائية القابلة للاستهلاك قبل انتهاء صلاحيتها وإعادة توزيعها على المحتاجين
أضف إلى ذلك، منصات إلكترونية تبيع فائض الطعام بأسعار رمزية—مثل 0.01 يوان للصنف—بعد التحقق من الحاجة إلى المستفيدين
5. مواجهة ثقافة “عروض الأكل المبالغ فيها”
في يونيو 2025، نادت جمعية المستهلكين الصينية بالتوقف عن دعم عروض الأكل المذهلة المنتشرة عبر الإنترنت، معتبرة أنها تروّج للهدر وتشجّع عادات غير صحية، خصوصًا بين الشباب
6. الأثر المحتمل والتحولات المستدامة
برفع كفاءة النظام الغذائي، يُمكن للصين استعادة نحو 55 مليون طن من الطعام سنويًا—ما يقلص بشكل ملحوظ من انهيار الإمدادات ويخفض الانبعاثات المرتبطة بالفاقد الغذائي
كما أن تحوّل السلوك الاستهلاكي واستخدام التكنولوجيا يحوّل النظام الغذائي نحو مسار أكثر استدامة.
الخلاصة
الصين تتبنّى نهجًا متكاملًا من خلال الجمع بين تشريعات قوية، تقنيات زراعية ذكية، ثقافة مصرفية واعية، ومبادرات مجتمعية فعلية، لتقليص هدر الطعام من المزرعة إلى الطبق. هذا التحول لا يعزز الأمن الغذائي فحسب، بل يبني مستقبلًا بيئيًا واقتصاديًا أكثر استدامة.
خاتمة
من خلال جهودها المتكاملة التي تشمل المزارعين، المستهلكين، المؤسسات، والحكومات المحلية، تقدم الصين نموذجًا قويًا في مواجهة واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا في القرن الحادي والعشرين. إن تقليل هدر الطعام ليس مجرد هدف بيئي أو اقتصادي، بل هو التزام أخلاقي واجتماعي نحو مستقبل مستدام وآمن غذائيًا.