الاستراتيجية الوطنية للابتكار والاستثمار في البحث والتطوير
لدى الصين استراتيجية وطنية شاملة للابتكار، مدعومة باستثمارات كبيرة في البحث والتطوير وإطار سياسي مصمم لتعزيز الابتكارات والتكامل الصناعي.
يحتل الاستثمار الصيني في البحث والتطوير المرتبة الثانية عالميًا، حيث تجاوز الإنفاق 3.6 تريليون يوان (حوالي 503.73 مليار دولار أمريكي) في عام 2024. وتساهم الشركات بأكثر من 75% من الإنفاق الوطني على البحث والتطوير وتوظف أكثر من 75% من العاملين في هذا المجال. وقد حددت “خطة التنمية الوطنية للعلوم والتكنولوجيا على المدى المتوسط والطويل (2006-2020)” الابتكار كاستراتيجية وطنية، بهدف تجاوز الإنفاق على البحث والتطوير 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2020. ويسلط “المبدأ التوجيهي لتسريع التنمية عالية الجودة لقطاع خدمات العلوم والتكنولوجيا” (مايو 2025) الضوء على صناعة خدمات العلوم والتكنولوجيا كدعم حاسم للتكامل التكنولوجي الصناعي العميق وتطوير “قوى إنتاج نوعية جديدة”. وتشجع السياسات الضريبية الإنفاق على البحث والتطوير، وتمنح الإصلاحات الباحثين حقوق ملكية على إنجازاتهم العلمية المتعلقة بعملهم.
أنشأت الصين أكثر من 100 مجمع علمي وتكنولوجي، مثل مجمع تشونغقوانتسون للعلوم (Z-Park) في بكين، الذي يضم أكثر من 22,000 شركة عالية التقنية وأكثر من 90 مؤسسة تعليم عالي. ويعد المركز الوطني للابتكار بامتياز (NICE)، الذي تأسس في عام 2021، منصة رئيسية لتحويل التطورات العلمية إلى تطبيقات صناعية. ويتم تشجيع الشركات التقنية الرائدة على تشكيل اتحادات ابتكار مع الجامعات ومعاهد البحوث والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وتهدف الحكومة إلى بناء نظام مالي متوافق مع الابتكار في العلوم والتكنولوجيا وتعزيز بيئة مفتوحة للابتكار في العلوم والتكنولوجيا ذات قدرة تنافسية عالمية.
تعد “قوى الإنتاج النوعية الجديدة” مفهومًا رئيسيًا طرحه الرئيس شي جين بينغ، ويهدف إلى التنمية عالية الجودة المدفوعة بالابتكار، وتتميز بالتقنية العالية والكفاءة العالية والجودة العالية. ويشمل ذلك رعاية الصناعات الناشئة (الطب الحيوي، الذكاء الاصطناعي، تطبيقات النانو تكنولوجي، الاقتصاد منخفض الارتفاع)، وتحويل وتحديث الصناعات التقليدية (المركبات الكهربائية، بطاريات الليثيوم أيون، المنتجات الكهروضوئية)، وتطوير الاقتصاد الرقمي. وتساهم قوى الإنتاج النوعية الجديدة في تعزيز التجارة الخارجية من خلال تحسين مطابقة العوامل، وتعميق التقسيم الصناعي، وتكثيف المنافسة في السوق.
يُلاحظ أن استراتيجية الابتكار في الصين لا تقتصر على زيادة البحث والتطوير، بل تهدف إلى بناء نظام بيئي متكامل رأسيًا وموجهًا من قبل الدولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي التكنولوجي والريادة العالمية في القطاعات الاستراتيجية. يهدف هذا النهج “الشامل للأمة” إلى التغلب على جهود الاحتواء التكنولوجي الخارجي من خلال ضمان البدائل المحلية والتحكم في سلاسل التوريد الحيوية، حتى لو أدى ذلك إلى بعض أوجه القصور أو مشاكل المنافسة الداخلية.
علاوة على ذلك، فإن استراتيجية “قوى الإنتاج النوعية الجديدة” هي استجابة متطورة لاقتصاد الصين الناضج والحاجة إلى إيجاد محركات نمو جديدة تتجاوز التصنيع والاستثمار التقليديين. إنها محاولة للارتقاء بسلسلة القيمة، وتعزيز التنمية المستدامة، والاستفادة من الابتكار لحل الاختلالات الاقتصادية الداخلية، مما قد يضع الصين في موقع الريادة في صناعات الجيل القادم مع إدارة التكاليف الاجتماعية والبيئية لنموذج نموها السابق.
التقنيات المتطورة والتطبيقات الصناعية
تحقق الصين تقدمًا كبيرًا في التقنيات المتطورة، مع تركيز قوي على التطبيقات الصناعية والسعي لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
تهدف الصين إلى أن تصبح رائدة عالمية في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي صناعة بقيمة 100 مليار دولار ويخلق أكثر من تريليون دولار من القيمة الإضافية في قطاعات أخرى مثل الرعاية الصحية، والتصنيع، والزراعة. ويشمل اللاعبون الرئيسيون شركات ناشئة مثل DeepSeek، وZhipu، وMoonshot، وMinimax، وشركات التكنولوجيا الكبرى مثل Alibaba (Qwen)، وBaidu (ERNIE)، وTencent (Hunyuan). وتبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المدن الذكية (التعرف على الوجه في مترو الأنفاق، إدارة حركة المرور في هانغتشو، مراقبة البيئة في قوانغتشو)، والرعاية الصحية (التشخيص، اكتشاف الأدوية، عمليات المستشفيات، الطب عن بعد)، والخدمات اللوجستية (روبوتات التوصيل الذاتية، التنبؤ بالطلب، تحسين المسار). وتدعم الصين البدائل المحلية لوحدات معالجة الرسوميات من Nvidia (سلسلة Huawei Ascend) والبرامج الأمريكية (Huawei MindSpore، Baidu PaddlePaddle).
تسرع الصين جهودها لتحويل أبحاث الكم إلى تطبيقات صناعية، مع أكثر من 150 شركة نشطة في قطاع الحوسبة الكمومية. وتشمل التطبيقات تشخيص سرطان الثدي (Origin Quantum)، ومواقف السيارات الذاتية، وتحسين الكفاءة التشغيلية في قطاعي المالية والاتصالات. ويعد معالج Zuchongzhi 3.0 الكمومي (105 كيوبت فائق التوصيل) أسرع بكثير من أجهزة الكمبيوتر العملاقة الحالية في مهام محددة.
تهدف الصين إلى تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70% في أشباه الموصلات بحلول عام 2025 (هدف “صنع في الصين 2025”)، على الرغم من أن التقييمات الأخيرة تشير إلى أن هذا الهدف قد لا يتحقق بالكامل. وقد ارتفع إنتاج الرقائق المحلية بنسبة 40% في الربع الأول من عام 2024، ومن المتوقع أن تسيطر الشركات المحلية على 33% من سوق الرقائق القديمة بحلول عام 2027. وقد أظهرت شريحة Kirin 9000S من Huawei (عملية 5 نانومتر من SMIC) في هاتف Mate 60 Pro قدرة الصين على إنتاج رقائق متقدمة على الرغم من العقوبات الأمريكية. ومع ذلك، لا تزال الصين متأخرة في إنتاج الرقائق الأكثر تقدمًا بسبب القيود المفروضة على الوصول إلى أدوات الطباعة الضوئية المتطورة وبرامج التصميم.
أنشأت الصين أكبر شبكة 5G في العالم (أكثر من 2 مليون محطة أساسية، 70% من الإجمالي العالمي) وتهدف إلى تغطية كاملة في جميع المدن بحلول عام 2025. ويتم نشر شبكات 5G-Advanced في أكثر من 300 مدينة، مما يوفر سرعات قصوى تصل إلى 10 أضعاف وسعة اتصال أكبر بكثير. ويتمثل الابتكار الرئيسي في دمج الاستشعار والاتصالات، مما يتيح تطبيقات مثل عمليات الطائرات بدون طيار منخفضة الارتفاع وربط ما يصل إلى 100 مليار جهاز إنترنت الأشياء. وتعد Huawei رائدة في البحث والتطوير في مجال 5G والمعدات، مع حلول تستخدم عالميًا.
يشهد قطاع الأدوية الحيوية في الصين استثمارات متزايدة وصفقات ترخيص من شركات الأدوية متعددة الجنسيات، مدفوعًا بزيادة البحث والتطوير وفعالية التكلفة. في الفترة من 2019 إلى 2024، قدمت الصين أكثر من 187,000 طلب براءة اختراع في قطاع الطب والرعاية الصحية، وهو ما يمثل 51.7% من الإجمالي العالمي. ويعد الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسيًا للابتكار في الصناعة، حيث يمثل 32.7% من هذه التطبيقات. ويركز مركز أبحاث المواد المتقدمة (AMRC) على المواد المستخدمة في الإلكترونيات والرعاية الصحية والطاقة، بما في ذلك أشباه الموصلات والمواد الحيوية والمواد الكمومية. وتسيطر الصين على التقنيات الخضراء الرئيسية، بما في ذلك أكثر من 75% من تصنيع بطاريات الليثيوم أيون العالمية وما يقرب من 80% من إنتاج وحدات الطاقة الشمسية. وتوفر تقنية البطاريات الجديدة للمركبات الكهربائية مدى يزيد عن 1000 كيلومتر ووقت شحن فائق السرعة يبلغ 10 دقائق فقط.
يُلاحظ أن الصين تتبع استراتيجية مزدوجة في التقنيات المتطورة، حيث تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في التقنيات الحيوية مثل رقائق الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية ، بينما تجذب في الوقت نفسه الاستثمار الأجنبي في القطاعات عالية التقنية وتشارك في التعاونات الدولية (مثل صفقات ترخيص الأدوية الحيوية). هذا يشير إلى نهج “مسار مزدوج” دقيق. فمن ناحية، تهدف الصين إلى تقليل نقاط ضعفها أمام ضوابط التكنولوجيا الخارجية من خلال بناء بدائل محلية قوية. ومن ناحية أخرى، تسعى إلى الاستفادة من الخبرة العالمية وفرص السوق حيثما أمكن، لا سيما في مجالات مثل الأدوية الحيوية حيث توفر فعالية التكلفة وعدد المرضى الكبير مزايا تنافسية. الهدف ليس العزلة الكاملة، بل الاستقلال الاستراتيجي الذي يسمح بالانخراط العالمي الانتقائي بشروط الصين.
علاوة على ذلك، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي في الصين على أنه قوة إنتاجية نوعية جديدة قادرة على تعزيز الإنتاجية والكفاءة بشكل كبير في جميع أنحاء الاقتصاد. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد صناعة قائمة بذاتها، بل يتم تطبيقه عبر قطاعات متنوعة مثل الرعاية الصحية، والمدن الذكية، والزراعة، والتصنيع. ويتم دعم تطويره باستثمارات ضخمة تقودها الدولة وشبكات حوسبة وطنية. هذا الانتشار الواسع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي هو خطوة استراتيجية لتحديث الصناعات التقليدية، ومعالجة التحديات الديموغرافية ، وتأمين مكانة رائدة في المشهد التكنولوجي العالمي، مما يحول الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية إلى أصل استراتيجي وطني أساسي.
استراتيجية المواهب وتنمية رأس المال البشري
تطبق الصين بنشاط استراتيجيات لتنمية واستبقاء المواهب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، وهو أمر بالغ الأهمية لتنميتها القائمة على الابتكار، مع معالجة التحديات مثل هجرة الأدمغة.
تعمل شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى (مثل Alibaba، وHuawei، وKuaishou) على توسيع نطاق توظيف المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي وبرامج التدريب بشكل كبير، بما في ذلك برامج التدريب الداخلي للخريجين. وتدعم الحكومة الشركات في تنفيذ المهام البحثية الوطنية الكبرى وتشجع تشكيل اتحادات الابتكار مع الجامعات ومعاهد البحوث. وتقدم السياسات مثل برنامج زمالة الدكتوراه في هونغ كونغ منحًا دراسية وأموالًا بحثية لجذب الباحثين المتميزين.
يغادر الآلاف من المهنيين الصينيين ذوي المهارات العالية المؤسسات الأمريكية بحثًا عن فرص في الصين وأماكن أخرى، وهو اتجاه تسارع بسبب سياسات التأشيرات الأمريكية المقيدة، والتوترات الجيوسياسية، والمشاعر المعادية للآسيويين. وتجذب الصين بنشاط المواهب العليا من خلال برامج تقدم رواتب عالية، وميزانيات بحثية، وإسكان، وأدوار قيادية، ومكانة مرموقة (مثل خطة الألف موهبة). وتستثمر الحكومة بكثافة في تقليل البيروقراطية وتوفير مسارات وظيفية واضحة للعائدين. وقد تم توجيه الشركات المملوكة للدولة لتوظيف المزيد من خريجي الجامعات الجدد للحد من بطالة الشباب.
يُلاحظ أن النقص المزمن في السكن داخل الحرم الجامعي وارتفاع تكاليف المعيشة في أماكن مثل هونغ كونغ يهدد باستبعاد المواهب من البلدان النامية. ويرى بعض الخبراء أن النظام الأكاديمي الصيني لا يزال يولي أهمية كبيرة للمنشورات وأهمية قليلة للتطبيق العملي، ويدعون إلى إصلاحات لإعطاء وزن أكبر لبراءات الاختراع والبحوث التطبيقية. ويواجه النظام تناقضًا بين الحاجة إلى السيطرة والاعتماد على الإبداع.
يُظهر التحليل أن التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين لا تقتصر على التجارة والتكنولوجيا، بل تمتد لتشمل صراعًا على رأس المال البشري. فسياسات التأشيرات الأمريكية المقيدة والتوترات الجيوسياسية تدفع العلماء الصينيين إلى مغادرة الولايات المتحدة. وتستغل الصين هذا الوضع بنشاط من خلال جذب المواهب مرة أخرى بتقديم حوافز وفرص جذابة. هذا يخلق “دورة دماغية” بدلاً من مجرد “هجرة أدمغة”، حيث يتم إعادة توزيع المواهب عالميًا، مما قد يعزز النظام البيئي للابتكار في الصين بينما يضعف نظيره في الولايات المتحدة. وهذا له تداعيات طويلة الأجل على الريادة العالمية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والأمن القومي.
كما أن استراتيجية الصين في مجال المواهب استراتيجية وسياسية، حيث تدمج العائدين في شبكات تجمع بين القيادة العلمية والتوجه الأيديولوجي. وعلى الرغم من أن الحكومة تستثمر بكثافة وتقلل من البيروقراطية، إلا أنها تفرض أيضًا سيطرة. وهناك حاجة معترف بها لتحويل التركيز الأكاديمي بشكل أكبر نحو التطبيق العملي والتسويق. وهذا يعني أن الصين تواجه تحديًا أساسيًا في الموازنة بين نهجها المركزي الذي تسيطر عليه الدولة والحاجة إلى الإبداع والاستقلالية التي تدفع الابتكار الحقيقي. وفي حين أن الدعم الحكومي يمكن أن يسرع التنمية في المجالات الاستراتيجية، فإنه يخاطر أيضًا بخلق أوجه قصور وخنق ديناميكية القطاع الخاص إذا لم تتم معايرته بعناية. وتعتمد فعالية استراتيجية المواهب في الصين على قدرتها على خلق بيئة تمكينية حقيقية للمواهب رفيعة المستوى، وليس مجرد جذبهم بحوافز مالية.
التوقعات الاستراتيجية والتوصيات
الفرص والتحديات في “الوضع الطبيعي الجديد”
يقدم “الوضع الطبيعي الجديد” في الصين تداخلاً معقدًا من الفرص المدفوعة بالتحول الهيكلي والابتكار، إلى جانب التحديات المستمرة الناجمة عن القضايا القديمة والديناميكيات الجيوسياسية.
الفرص:
إمكانات السوق المحلية: يوفر التحول إلى النمو القائم على الاستهلاك وعدد السكان الكبير إمكانات هائلة لتوسع السوق المحلية.
النمو المدفوع بالابتكار: تُعرف قوى الإنتاج النوعية الجديدة، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والتقنيات الخضراء بأنها محركات نمو جديدة، تجذب الاستثمار وتعزز الصناعات ذات القيمة العالية.
الريادة الخضراء العالمية: تضع هيمنة الصين في تصنيع الطاقة المتجددة وبراءات الاختراع في هذا المجال في مكانة اللاعب الرئيسي في حلول المناخ العالمية.
توسع الاقتصاد الرقمي: توفر التجارة الإلكترونية عبر الحدود والتجارة القابلة للتسليم رقميًا طرقًا جديدة للتجارة الدولية والنفوذ.
التحديات:
الاختلالات الهيكلية: تستمر مشكلات الاستهلاك الضعيف، ومستويات الاستثمار المرتفعة، والقدرة الفائضة، مما يؤدي إلى ضغوط انكماشية.
الرياح الديموغرافية المعاكسة: يهدد انخفاض معدل المواليد وشيخوخة السكان القوى العاملة ويجهد أنظمة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية.
ديون الحكومات المحلية والعقارات: تشكل هذه الأزمات المترابطة مخاطر مالية واجتماعية كبيرة.
اختناقات الاكتفاء الذاتي التكنولوجي: على الرغم من التقدم، لا يزال الاعتماد على الرقائق والبرامج الأجنبية المتقدمة، إلى جانب ضوابط التصدير، يمثل نقطة ضعف.
التوترات الجيوسياسية: تستمر الحروب التجارية، وفصل التكنولوجيا، والتدقيق الدولي في التأثير على المسار الاقتصادي والتكنولوجي للصين.
يُظهر التحليل وجود تناقض بين قوة الصين وضعفها في نموذجها الاقتصادي. فبينما تعد الصين رائدة عالميًا في القدرة التصنيعية، لا سيما في التكنولوجيا الخضراء، وتحقق تقدمًا سريعًا في الذكاء الاصطناعي ، فإن هذه القوة مصحوبة بتحديات داخلية حادة مثل القدرة الفائضة، والانكماش، وقطاع العقارات المتعثر. هذا يشير إلى أن النموذج الاقتصادي الصيني، على الرغم من قدرته على تحقيق إنتاج صناعي هائل وتطور تكنولوجي سريع، لا يزال يعاني من استيعاب الطلب المحلي وتخصيص رأس المال بكفاءة. ويسعى “الوضع الطبيعي الجديد” إلى معالجة ذلك، لكن التوتر المتأصل بين التوسع في جانب العرض الذي تقوده الدولة وتأخر الاستهلاك المحلي يخلق نقطة ضعف أمام الانكماش والاحتجاجات التجارية، مما قد يقوض الاستدامة طويلة الأجل لنموها.
كما أن التفاعل بين التركيبة السكانية والتكنولوجيا يشكل مسار النمو المستقبلي. فبينما تواجه الصين تحديات ديموغرافية حادة، بما في ذلك تقلص القوى العاملة وشيخوخة السكان ، فإن أحد الحلول المقترحة هو الاستثمار في الأتمتة والذكاء الاصطناعي والروبوتات للحفاظ على الإنتاجية. هذا يشير إلى أن نجاح طموحات الصين التكنولوجية، لا سيما في الذكاء الاصطناعي والروبوتات، لا يتعلق فقط بالمنافسة العالمية ولكنه يرتبط ارتباطًا جوهريًا بقدرتها على التخفيف من الضغوط الديموغرافية الداخلية. يُنظر إلى التكنولوجيا على أنها حل مباشر لنقص العمالة وارتفاع مطالب رعاية المسنين. وهذا يخلق حافزًا داخليًا قويًا للابتكار، مما قد يسرع تبني التكنولوجيا وتطويرها بدافع الضرورة، وتحويل الأزمة الديموغرافية إلى فرصة للتحديث الصناعي وقنوات نمو اقتصادي جديدة.
تداعيات السياسة والتوجهات المستقبلية
تهدف استجابات الصين السياسية إلى التغلب على هذه التحديات المعقدة وترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية وتكنولوجية عالمية كبرى.
التركيز على السياسات:
التعديلات المالية والنقدية: زيادة نسبة العجز المالي، وإصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل للغاية، والتحول نحو “تيسير معتدل” في السياسة النقدية للتخفيف من ضغوط التمويل.
الإصلاحات الهيكلية: التركيز على إعادة التوازن في العلاقة المالية بين الحكومات المركزية والمحلية، وإصلاحات في تخصيص الأراضي وتنظيم السوق المالية لقطاع العقارات.
السياسة الصناعية: استمرار التركيز على التصنيع كمحرك للنمو، مع جهود لدمج الشركات المملوكة للدولة وتعزيز “قوى الإنتاج النوعية الجديدة”.
المواهب والابتكار: حشد الموارد لتنمية المواهب في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتشجيع عودة الهجرة، وتعزيز الابتكار الذي تقوده الشركات.
الحوكمة الرقمية: تعزيز قوانين أمن البيانات (PIPL، DSL، CSL) مع توضيح قواعد نقل البيانات عبر الحدود لتحقيق التوازن بين الأمن وتسهيل التجارة.
المسار المستقبلي:
النمو الاقتصادي: من المتوقع أن يتباطأ إلى 4.5% في عام 2025 و 4.0% في عام 2026 بسبب القيود التجارية العالمية وعدم اليقين.
الدور العالمي: تهدف الصين إلى أن تصبح رائدة عالمية في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030 و “قوة تصنيعية” بحلول عام 2049.
تدويل اليوان الرقمي: تروج الصين بنشاط لليوان الرقمي لتعزيز وجوده العالمي وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، لا سيما داخل مجموعة البريكس.
التنمية المستدامة: استمرار تعميق النمو الأخضر ومنخفض الكربون، مع استثمارات كبيرة في الطاقة المتجددة.
يُلاحظ أن مستقبل الصين الاقتصادي والتكنولوجي يعتمد على موازنة دقيقة بين السيطرة المركزية وديناميكيات السوق. فالتدخلات الحكومية الكبيرة، من التحفيز المالي والتخطيط الصناعي إلى دمج الشركات المملوكة للدولة وتوظيف المواهب ، تُعتبر ضرورية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية وإدارة المخاطر. ومع ذلك، هناك تحديات معترف بها تتعلق بتشوهات السوق، والقدرة الفائضة، والحاجة إلى كفاءة أكبر مدفوعة بالسوق. يشير هذا إلى أن التوتر بين الأهداف السياسية والواقع الاقتصادي سيظل سمة مميزة.
علاوة على ذلك، فإن اليوان الرقمي ليس مجرد ابتكار تكنولوجي للمدفوعات المحلية، بل هو أداة جيوسياسية استراتيجية تهدف إلى إعادة ترتيب الحوكمة النقدية العالمية. فجهود تدويله، لا سيما داخل تكتلات مثل البريكس، تشير إلى طموح طويل الأجل لتقليل هيمنة الدولار وزيادة نفوذ الصين المالي، مما قد يؤدي إلى مشهد نقدي عالمي أكثر تجزئة مع زيادة تكاليف المعاملات وتكتلات جيوسياسية حول العملات الرقمية المتنافسة.