أولت الصين في السنوات الأخيرة أولوية وطنية للذكاء الاصطناعي، إذ تسعى لتصبح مركزًا عالميًا رائدًا للابتكار في هذا المجال. وتُستخدم تقنيات مثل التعرف على الوجه والتعرف على الصوت والروبوتات الذكية والواقع الافتراضي والمركبات ذاتية القيادة على نطاق واسع في البلاد، لتغطي مجالات كالتعليم والرعاية الطبية والعلوم والتكنولوجيا والخدمات اللوجستية والزراعة والترفيه. ويُظهر هذا الانتشار الواسع – إلى جانب الدعم الحكومي القوي – إصرار الصين على تسخير الذكاء الاصطناعي كمحرك تحولي للتنمية الاقتصادية والتكنولوجية.
يتجسد المخطط الإستراتيجي للصين في مجال الذكاء الاصطناعي في «خطة تنمية الجيل الجديد للذكاء الاصطناعي» (2017)، والتي تهدف إلى جعل الصين المركز العالمي الرئيسي للابتكار في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030. تستهدف هذه الخطة أن تتجاوز قيمة صناعات الذكاء الاصطناعي الأساسية 1 تريليون يوان (حوالي 140.9 مليار دولار)، وأن تتخطى الصناعات ذات الصلة 10 تريليونات يوان بحلول ذلك الموعد. ولتحقيق هذه الغايات، طرحت السلطات سياسات داعمة للبحث والتطوير العلمي، وتشجيع التطبيقات، وتنمية الصناعة لمعالجة مشاكل تطبيق الذكاء الاصطناعي وت产业ته. كما أن العديد من الحكومات المحلية تسرّع دمج الموارد الابتكارية لتعزيز تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي والصناعات المرتبطة بها. فعلى سبيل المثال، تضم بكين حوالي 28% من بين 2,200 شركة ذكاء اصطناعي في الصين (وهي النسبة الأكبر وطنيًا) وأطلقت خطة لرفع حجم صناعتها الأساسية في الذكاء الاصطناعي إلى 300 مليار يوان بحلول 2025. وعلى المستوى الوطني، بلغ إجمالي حجم صناعة الذكاء الاصطناعي الأساسية في الصين حوالي 500 مليار يوان، وتجاوز عدد الشركات العاملة فيه 4,300 شركة بحسب بيانات وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات لعام 2023.
تمتد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الصين عمليًا إلى كل ميدان. فأنظمة التعرف على الوجه تؤمّن المدفوعات وتوفر الأمن في المدن؛ وأدوات التشخيص الطبي بالذكاء الاصطناعي تساعد الأطباء في تحليل الصور؛ كما يجري اختبار المركبات ذاتية القيادة على الطرق العامة. فعلى سبيل المثال، قدّمت خدمة التاكسي الروبوتي Apollo Go من شركة بايدو مئات الآلاف من الرحلات بدون سائق في عدة مدن صينية. ويتمتع الباحثون الصينيون بحضور قوي في تطوير الذكاء الاصطناعي – إذ تقود الصين العالم في عدد الأوراق العلمية وبراءات الاختراع المقدمة في المجال – مستفيدين من وفرة البيانات المحلية وكفاءات هندسية ضخمة.

يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة أيضًا في قطاع التصنيع الصيني. فروبوتات صناعية متقدمة وأنظمة رؤية حاسوبية تُنشر في خطوط الإنتاج لتعزيز الكفاءة والدقة. ففي معرض صناعي أقيم في شنغهاي، على سبيل المثال، عرضت روبوتات ذكية حلول تشغيل آلي لعمليات التصنيع موجهة لقطاعات ذات طلب عالٍ مثل مركبات الطاقة الجديدة والمعدات الإلكترونية. وعلى الصعيد الوطني، تجاوز حجم صناعة المعدات التصنيعية الذكية في الصين 3.2 تريليون يوان، وتُطبَّق تقنيات كالروبوتات المدعومة بالذكاء الاصطناعي والتوائم الرقمية في أكثر من 90% من المصانع النموذجية الوطنية. عبر تبني الأتمتة المعززة بالذكاء الاصطناعي، تسعى الصين إلى ترقية قاعدتها الصناعية والحفاظ على مكانتها كمصنع عالمي رائد في عصر الذكاء الاصطناعي.
تستعرض الصين تقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي أمام الجمهور بصورة منتظمة. خلال قمة الصين الرقمية لعام 2024 مثلًا، أذهل ذراع روبوتي يعمل بالذكاء الاصطناعي الزوار بكتابته الخط الصيني التقليدي بالفرشاة ببراعة – في عرض حي لكيفية امتزاج الأتمتة الذكية مع الثقافة. ومن المساعدات الذكية في خدمة العملاء إلى مكبرات الصوت المنزلية الذكية، أصبحت التطبيقات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي مألوفة في حياة الصينيين اليومية، مما يعكس مجتمعًا يتبنى بسرعة الآلات والخدمات الذكية.
وتضطلع كل من عمالقة التكنولوجيا والشركات الناشئة بدور محوري في دفع طموحات الصين في الذكاء الاصطناعي. فقد استثمرت شركات مثل بايدو وعلي بابا وتينسنت وهواوي بكثافة في البحث والتطوير في هذا المضمار – فطورت كل منها ابتكارات تشمل نماذج لغوية ضخمة ومنصات سحابية ذكية وصولًا إلى رقائق ذكاء اصطناعي متخصصة وبرمجيات للقيادة الذاتية. كما برزت شركات ناشئة مثل SenseTime (في الرؤية الحاسوبية) وiFlytek (في تكنولوجيا التعرف على الكلام) كشركات رائدة في مجالاتها؛ وبالفعل، أصبحت الصين مسؤولة عن نصيب هائل من ابتكارات الذكاء الاصطناعي عالميًا، حيث تشير التقديرات إلى أن المخترعين في الصين سجلوا حوالي 74.7% من براءات اختراع الذكاء الاصطناعي في العالم بين عامي 2014 و2023. هذا النظام البيئي الواسع للشركات – والذي يحظى في كثير من الأحيان بدعم حكومي – مكّن الصين من تحقيق طفرات في مجالات مثل تقنية التعرف على الوجوه والذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا المالية وتقنيات المراقبة الذكية.
يشهد الاستثمار في الذكاء الاصطناعي طفرة من جانب كلٍ من القطاعين العام والخاص في الصين. أنشأت الحكومة صناديق ضخمة وقدمت حوافز مالية لدعم هذا القطاع – على سبيل المثال، في عام 2023 أطلقت صندوقًا وطنيًا جديدًا بقيمة 300 مليار يوان (حوالي 47.5 مليار دولار) مخصص لتطوير أشباه الموصلات ورقائق الذكاء الاصطناعي. وتقدم المدن الكبرى أيضًا إعانات ومنحًا بحثية لجذب شركات الذكاء الاصطناعي، فيما توسع البرامج الوطنية تعليم وتدريب الكفاءات في هذا المجال لسد فجوة المواهب. أما استثمارات القطاع الخاص فهي قوية بدورها؛ إذ تضخ شركات التقنية وصناديق رأس المال المغامر الصينية مليارات في الشركات الناشئة المعنية بالذكاء الاصطناعي، رغم أن إجمالي تمويل القطاع الخاص للذكاء الاصطناعي في الصين لا يزال أقل من نظيره في الولايات المتحدة. وبالمجمل، وبفضل وفرة البيانات ورأس المال والدعم الحكومي الحثيث، يجتذب قطاع الذكاء الاصطناعي الصيني موارد مالية هائلة تركز على الابتكار.
على الرغم من التقدم المتسارع، تواجه الصين تحديات مهمة على طريقها نحو ريادة الذكاء الاصطناعي. تتمثل إحدى العقبات الرئيسية في تقليل الاعتماد على التقنيات الأجنبية – فلا تزال المعالجات المتقدمة وأنظمة تصنيع الرقائق عالية الدقة مستوردة إلى حد كبير، وقد جعلت القيود التصديرية الحديثة الحصول على أحدث أشباه الموصلات أمرًا صعبًا. وقد حفّز ذلك البلاد على تكثيف الابتكار المحلي في مجال الشرائح والخوارزميات الأساسية، لكن سد الفجوة سيستغرق وقتًا. ويقر الخبراء بأن الصين لا تزال متأخرة عن الدول المتقدمة في بعض النواحي الجوهرية، من حيث تطوير الخوارزميات الأساسية والبرمجيات المفتاحية ونظامها البيئي، وكذلك في توافر الخبرات البشرية عالية المستوى. وللتعامل مع ذلك، تعزز الحكومة برامج تعليم الذكاء الاصطناعي واستقطاب الخبراء، لكن بناء منظومة ابتكار متكاملة ورائدة سيحتاج لجهود طويلة الأمد. في الوقت ذاته، تضع الصين أطرًا تنظيمية لضمان الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي: ابتداءً من قواعد جديدة للحد من المحتويات الزائفة (التزييف العميق) والمحتوى المُنشأ بالذكاء الاصطناعي، إلى إرشادات حول استخدام البيانات، إذ يجب على صناع السياسات الموازنة بين تشجيع الابتكار والحد من المخاطر مثل التحيز أو إساءة استخدام التقنية – خاصة مع الانتشار الواسع للذكاء الاصطناعي في مجالات كالمراقبة. إن كيفية مواجهة هذه التحديات ستحدد مدى سرعة تحقيق الصين لطموحاتها في الذكاء الاصطناعي.
وفي النظرة المستقبلية، تتمتع الصين بمجموعة من المزايا – سوق محلية ضخمة، ومقادير هائلة من البيانات، ودعم حكومي صارم – مما يضعها في موقع جيد ضمن السباق العالمي في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد أكدت القيادة الصينية مرارًا عزمها على أن تصبح الدولة الرائدة عالميًا في الابتكار بالذكاء الاصطناعي بحلول 2030، وإذا استمر الزخم الحالي، يرى كثير من المحللين أن الصين قد تتصدر مجالات أساسية في هذا المضمار. من المتوقع أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في اقتصاد الصين المستقبلي، دافعًا كل شيء من البنية التحتية للمدن الذكية والمواصلات ذاتية التحكم إلى الأنظمة العسكرية المتقدمة والأبحاث العلمية. كما تنشط الصين في تشكيل معايير الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي، داعيةً إلى تعاون دولي بشأن قضايا مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وأمن البيانات. وفي المحصلة، وبوجود استثمار مستمر وإدارة حصيفة للتحديات، يبدو أن قطاع الذكاء الاصطناعي في الصين ماضٍ نحو توسّع سريع، مما قد يعيد تشكيل الصناعات محليًا ويثبت مكانة البلاد كقوة عظمى في الذكاء الاصطناعي خلال العقد القادم.
