من الطرق القديمة إلى الصناعة الحديثة: نظرة تاريخية عامة
تتمتع السياحة في الصين بتاريخ عميق وغني، شهدت فيه تحولات كبيرة عبر العصور، وصولاً إلى مكانتها كقوة اقتصادية عالمية. لم تكن السياحة مجرد ظاهرة حديثة، بل تطورت من ممارسات السفر والضيافة المتجذرة في التاريخ الصيني الطويل.
الأشكال المبكرة للسفر والسلالات القديمة
تمتلك السياحة في الصين إرثاً تاريخياً عميقاً، حيث شهدت نقطة تحول محورية خلال سلالتي مينغ وتشينغ المبكرتين. هذه الفترة، التي تزامنت مع بداية ظهور الرأسمالية وتطورها البطيء ودخول المجتمع الإقطاعي مرحلته المتأخرة، أثرت بشكل كبير على أشكال السفر. تنوعت أنماط الرحلات لتشمل الرحلات البحرية، والجولات السياحية للمناظر الطبيعية الخلابة، والنزهات في الضواحي، والبعثات العلمية، والرحلات إلى الحصون الحدودية، وحتى الرحلات إلى الغرب بهدف نشر الثقافة الصينية وتطوير العلاقات الودية.
ضمت قائمة المسافرين شخصيات بارزة من مختلف الطبقات الاجتماعية، مثل الأباطرة (كانغشي، تشيانلونغ، وغيرهم)، والمبعوثين الدبلوماسيين، والعلماء، والمواطنين العاديين، وحتى المنفيين. العديد من الوجهات السياحية التي كانت محط إعجاب في تلك الفترة لا تزال قائمة حتى اليوم، مثل سور الصين العظيم، والحدائق الإمبراطورية كالقصر الصيفي والقصر الصيفي القديم، وحدائق خاصة مثل حديقة المسؤول المتواضع، بالإضافة إلى المجمعات الدينية في جبل إيمي وجبال وودانغ.
شهدت البنية التحتية للسياحة تطورات ملحوظة، حيث خضعت طرق ومحطات البريد لتغييرات كبيرة. فبعد تجديدها في أوائل عهد مينغ لزيادة فعاليتها، تدهورت هذه المحطات في منتصف وأواخر عهد مينغ وخلال عهد تشينغ بسبب الحروب والفساد المستشري، لتزدهر مرة أخرى في عهود كانغشي ويونغ تشنغ وتشيانلونغ، ثم تتدهور مجدداً بعد حرب الأفيون وتُلغى نهائياً في عام 1913. في المقابل، ازدهرت النزل الخاصة في أوائل عهد تشينغ، وشهدت قاعات النقابات، التي بدأت في عهد يونغلي من سلالة مينغ، ذروة ازدهارها في عهد تشينغ، حيث كانت تؤدي وظائف مشابهة للنزل الخاصة. هذا التطور التاريخي يُظهر أن صناعة السياحة الحديثة في الصين لم تنشأ من فراغ، بل بُنيت على أساس ممارسات مجتمعية وبنية تحتية متطورة عبر قرون، مما منح السياحة الصينية عمقاً ثقافياً فريداً يميزها عن الأسواق السياحية الأحدث. هذه الجذور التاريخية العميقة توفر أساساً ثقافياً غنياً للسياحة الصينية، مما يمنحها طابعاً مميزاً.
نشأة السياحة الحديثة
شهدت السياحة الحديثة في الصين انطلاقتها الرسمية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. في عام 1954، تأسست شركة الصين الدولية لخدمات السفر (CITS) مع 14 فرعاً في المدن الكبرى مثل قوانغتشو وشانغهاي وبكين. تبع ذلك التأسيس الرسمي لإدارة الدولة للسياحة في الصين عام 1964.
في البداية، لم تكن السياحة مساهماً رئيسياً في الاقتصاد الوطني، وذلك بسبب النظام السياسي الصيني والقيود الاقتصادية والسياسية التي فرضتها الدول الغربية. كانت إدارة السياحة الصينية في تلك الفترة وكالة حكومية تركز بشكل أساسي على الشؤون السياحية ذات الأهمية للعلاقات الخارجية للصين، حيث كانت كلمة “دولية” في اسم شركة خدمات السفر الدولية الصينية تشير إلى الدبلوماسية. كان أوائل السياح الوافدين إلى الصين يأتون من الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الأخرى. هذا النهج الموجه من الدولة في السنوات التكوينية للسياحة الحديثة في الصين، حيث كانت السياحة أداة للسياسة الخارجية وليست محركاً اقتصادياً بحد ذاتها، ساهم في تشكيل بنيتها التحتية وتنظيمها الأولي تحت نموذج مركزي. هذا التأسيس المبكر للسياحة كأداة دبلوماسية، بدلاً من كونها قطاعاً اقتصادياً خالصاً، يوضح كيف أن التوجه المركزي للحكومة قد وضع الأساس لتطورها اللاحق.
الأثر التحويلي للإصلاح والانفتاح (بعد عام 1978)
منذ بدء سياسات الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي في عام 1978، دخلت السياحة في الصين مرحلة من التطور السريع وغير المسبوق. شهدت هذه الفترة نمواً هائلاً في أعداد السياح، حيث وصل عدد السياح الوافدين إلى الصين في عام 1998 إلى 63.48 مليون سائح، منهم 7.11 مليون سائح أجنبي، وهو ما يمثل زيادة قدرها 35 ضعفاً عن عام 1978.
نتج عن هذا النمو الكبير ارتفاع في إيرادات العملات الأجنبية من هذه الصناعة، حيث بلغت 12.6 مليار دولار أمريكي في عام 1998، أي 48 ضعفاً لما كانت عليه في عام 1978. أصبحت الصين بذلك وجهة سياحية مهمة في آسيا، واحتلت المرتبة السادسة عالمياً من حيث عدد الوافدين. إلى جانب السياحة الوافدة، شهدت السياحة الداخلية نمواً قوياً أيضاً. في عام 1998، وصل عدد السياح المحليين إلى 695 مليون سائح، وأنفقوا ما مجموعه 239.1 مليار يوان. هذا النمو لم يكن مجرد صدفة، بل كان نتيجة مباشرة للاستثمار الاستراتيجي في البنية التحتية. فقد تطور نظام النقل في الصين، الذي يشمل السكك الحديدية والطرق والنقل المائي والطيران المدني، بشكل قوي بالتوازي مع صناعة السياحة. أنشأت الصين 1,122 طريقاً جوياً محلياً ودولياً، وأصبحت الحافلات المكيفة تربط جميع المواقع السياحية لتوفير الراحة والملاءمة للسياح. كما يمكن للسياح حجز تذاكر القطارات والحافلات والسفن والطائرات إلى أي وجهة من الفنادق.
تشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2020، ستكون الصين الوجهة السياحية الأولى عالمياً ورابع أكبر دولة من حيث عدد السياح. هذا النمو الهائل والتحول الجذري في قطاع السياحة الصيني يعكس الأثر المضاعف لسياسات التحرير الاقتصادي والاستثمار المكثف في البنية التحتية، مما حول السياحة إلى قوة اقتصادية دافعة. هذا الارتباط الوثيق بين تحرير السياسات وتطوير البنية التحتية يوضح كيف أن التخطيط الاستراتيجي يمكن أن يحقق نمواً اقتصادياً سريعاً ومستداماً في قطاع حيوي مثل السياحة.
المساهمة الاقتصادية والديناميكيات الهيكلية
تُعد السياحة في الصين اليوم قطاعاً اقتصادياً حيوياً، ليس فقط من حيث مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، بل أيضاً في هيكلها الداخلي المعقد الذي يعكس أنماط الإنفاق المتنوعة وتأثيرها على سوق العمل.
حصة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي وتوزيع القيمة المضافة
تُظهر البيانات الحديثة أن السياحة في الصين أصبحت مساهماً اقتصادياً حيوياً بشكل متزايد. في عام 2023، تم تعديل القيمة المضافة لصناعات السياحة والأنشطة المرتبطة بها على مستوى البلاد لتصل إلى 5.4832 تريليون يوان، وهو ما يمثل 4.24% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP). هذا الرقم يمثل زيادة قدرها 0.57 نقطة مئوية عن العام السابق، مما يؤكد تزايد أهمية القطاع في الاقتصاد الصيني.
من حيث الهيكل الداخلي، بلغت القيمة المضافة للسياحة وحدها 4.9890 تريليون يوان، وهو ما يمثل 91.0% من إجمالي القيمة المضافة للسياحة والصناعات المرتبطة بها، بزيادة قدرها 1.7 نقطة مئوية عن العام السابق. بينما بلغت القيمة المضافة للصناعات المرتبطة بالسياحة 494.2 مليار يوان، أي 9.0% من الإجمالي، بانخفاض قدره 1.7 نقطة مئوية.
يوضح الجدول التالي التوزيع التفصيلي للقيمة المضافة في قطاع السياحة والصناعات المرتبطة به لعام 2023:
الجدول 1.1: القيمة المضافة للسياحة والصناعات المرتبطة بها في الصين (توزيع 2023)
البنود | القيمة المضافة (100 مليون يوان) | النسبة المئوية (%) |
السياحة والصناعات المرتبطة بها | 54832 | 100.0 |
السياحة | 49890 | 91.0 |
النقل | 12634 | 23.0 |
الإقامة | 3979 | 7.3 |
الطعام والشراب | 8379 | 15.3 |
مشاهدة المعالم | 2834 | 5.2 |
التسوق | 18644 | 34.0 |
الترفيه والتسلية | 2473 | 4.5 |
الخدمات الشاملة | 947 | 1.7 |
الصناعات المرتبطة بالسياحة | 4942 | 9.0 |
الخدمات المساعدة في السياحة | 4860 | 8.9 |
خدمات إدارة السياحة الحكومية | 82 | 0.1 |
يُظهر هذا التوزيع أن التسوق يمثل الحصة الأكبر من القيمة المضافة (34.0%)، يليه النقل (23.0%)، ثم الطعام والشراب (15.3%). هذه الأرقام تؤكد أن جزءاً كبيراً من الأثر الاقتصادي للسياحة مدفوع بالإنفاق الاستهلاكي على السلع والخدمات المتعلقة بالتنقل. هذا يشير إلى أن السياسات التي تهدف إلى تعزيز الاستهلاك وتحسين البنية التحتية للنقل يمكن أن تزيد بشكل مباشر من القيمة الاقتصادية للسياحة. كما يُبرز هذا التوزيع أنماطاً استهلاكية حيث يُعد التسوق مكوناً مركزياً لتجربة السفر في الصين.
توليد الإيرادات: اتجاهات الإنفاق الداخلي والخارجي والمحلي
تُقدم بيانات الإيرادات صورة معقدة وديناميكية لمساهمة السياحة في الاقتصاد الصيني. في عام 2024، بلغت الإيرادات التي حققها السياح الدوليون في الصين 39.70 مليار دولار أمريكي، مسجلة زيادة قدرها 60% عن عام 2023، وتجاوزت مستويات عام 2019 بنسبة 11%. وبلغ متوسط إنفاق الزوار الدوليين لكل رحلة في عام 2024 حوالي 1024.04 يوان (حوالي 141.32 دولار أمريكي)، بزيادة عن 1004.56 يوان في عام 2023.
قبل جائحة كوفيد-19 (في عام 2019)، كان سكان هونغ كونغ وماكاو يشكلون ما يقرب من 75% من إجمالي الزيارات الوافدة إلى الصين، لكنهم ساهموا بنسبة 30% فقط من إيرادات السياحة، بمتوسط إنفاق حوالي 350 دولاراً أمريكياً لكل رحلة. وفي المقابل، ساهم الزوار الأجانب (غير المقيمين في هونغ كونغ وماكاو)، الذين شكلوا 22% من الوافدين في عام 2019، بنسبة 60% من إيرادات السياحة الوافدة، حيث كانوا ينفقون مبالغ أكبر بكثير لكل رحلة. يُتوقع حدوث تحول نحو السياح الحقيقيين وزيادة الإنفاق من قبل زوار هونغ كونغ في العقد المقبل. هذا التباين في الإنفاق يشير إلى أن جذب قاعدة أوسع من السياح الدوليين من خارج المنطقة يمثل مفتاحاً لتعظيم إيرادات السياحة الوافدة، وتجاوز الاعتماد التاريخي على الزوار الإقليميين.
على الصعيد العالمي، برزت الصين في عام 2024 كأكبر سوق للسياحة الخارجية إنفاقاً، حيث أنفق المسافرون الصينيون 250.6 مليار دولار أمريكي في الخارج. هذا الرقم يمثل ضعف ما أنفقه السياح الأمريكيون وثلاثة أضعاف ما أنفقه السياح الألمان. هذا الموقع المهيمن في السياحة الخارجية يسلط الضوء على تدفق كبير لرأس المال السياحي من الصين إلى الخارج. هذا يخلق توازناً محتملاً إذا لم تنمو السياحة الوافدة بشكل متناسب، مما يشير إلى ضرورة استراتيجية لتحقيق التوازن بين التدفقات الوافدة والصادرة لتحقيق صافي فائدة اقتصادية.
بالنسبة للسياحة الداخلية، شهدت الصين نمواً قوياً، حيث بلغ عدد السياح المحليين 5.615 مليار سائح في عام 2024، بزيادة قدرها 14.8% عن عام 2023. وبلغ الإنفاق على السياحة الداخلية 5.75 تريليون يوان في عام 2024، بزيادة قدرها 17.1% عن عام 2023. هذا النمو القوي في السياحة الداخلية يوفر أساساً مستقراً للقطاع، ويعمل كمحرك اقتصادي أساسي، خاصة في ظل التعافي البطيء للسياحة الدولية.
تأثير التوظيف وتوقعات خلق فرص العمل في قطاع السياحة
يُعد قطاع السياحة في الصين محركاً مهماً لخلق فرص العمل، مع إمكانات نمو كبيرة. تُشير التوقعات إلى أن تدفق السياح الأجانب يمكن أن يؤدي إلى إضافة ما يصل إلى 35 مليون وظيفة في قطاع السياحة خلال العقد المقبل. هذا الرقم يعادل 5% من إجمالي العمالة الحالية في الصين. هذا التوقع يبرز الدور المحوري للسياحة ليس فقط كمولد للإيرادات، بل أيضاً كأداة حاسمة لخلق فرص العمل ودفع عجلة الاستهلاك العام، مما يعزز الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير.
حالياً، توظف صناعة السياحة في الصين حوالي 0.2% من إجمالي السكان. هذه النسبة أقل بكثير مقارنة بالولايات المتحدة (2.7%) أو اليابان (4.7%). هذا الفارق الكبير بين نسبة التوظيف في السياحة الصينية وتلك في الاقتصادات المتقدمة يشير إلى إمكانات هائلة غير مستغلة لنمو التوظيف في القطاع. هذا يعني أن الاستثمار في السياحة لا يقتصر على توليد الإيرادات فحسب، بل يمثل أيضاً محركاً اقتصادياً مضاعفاً يمكن أن يسهم في معالجة تحديات التوظيف وتحفيز النمو الشامل. هذا يشير إلى أن السياسات الحكومية التي تهدف إلى تعزيز السياحة هي أيضاً سياسات ضمنية لخلق فرص العمل.
التعافي بعد الجائحة والأداء الحالي للسوق
شهد قطاع السياحة في الصين فترة تعافٍ معقدة بعد جائحة كوفيد-19، حيث تباينت مستويات التعافي بين السياحة الدولية والمحلية، مما أثر على مكانة الصين في السوق العالمية.
تحليل أعداد الزوار الدوليين والإنفاق (بيانات 2019-2024)
شهدت أعداد الزوار الدوليين إلى الصين تقلبات كبيرة خلال السنوات الأخيرة. فبعد أن بلغ عددهم 65.7 مليون زائر في عام 2019، انخفض بشكل حاد إلى 8.0 مليون في عام 2020، و5.7 مليون في عام 2021 بسبب الجائحة. بدأت الأعداد في التعافي تدريجياً، لتصل إلى 25.3 مليون في عام 2022، ثم 35.5 مليون في عام 2023. ومع ذلك، سجل عام 2024 انخفاضاً طفيفاً إلى 32.0 مليون زائر دولي، وهو ما يمثل تراجعاً بنسبة 10% عن عام 2023، ولا يزال أقل بنسبة 51% من مستويات ما قبل الجائحة في عام 2019.
من المهم التمييز بين فئات الزوار. فبينما تشير الأرقام المذكورة أعلاه إلى “الزوار الدوليين” (الذين لا يشملون عادةً سكان هونغ كونغ وماكاو وتايوان في بعض الإحصائيات)، فإن البيانات الأوسع تُظهر أن إجمالي عدد السياح الوافدين إلى الصين (بما في ذلك سكان هونغ كونغ وماكاو وتايوان) بلغ حوالي 132 مليون سائح في عام 2024. هذا الرقم يمثل تعافياً بنسبة 97.2% من مستويات عام 2019 من حيث عدد الزوار، و93.5% من حيث إجمالي الإنفاق الذي وصل إلى 94.2 مليار دولار أمريكي.
يوضح الجدول التالي أعداد الزوار الدوليين وإيراداتهم من 2019 إلى 2024:
الجدول 1.2: أعداد الزوار الدوليين وإيراداتهم في الصين (مقارنة 2019-2024)
السنة | الزوار الدوليون (مليون) | إجمالي السياح الوافدين (مليون) | إيرادات السياحة الدولية (مليار دولار أمريكي) | نسبة التعافي من 2019 (الزوار الدوليون) | نسبة التعافي من 2019 (إجمالي السياح الوافدين) | نسبة التعافي من 2019 (الإيرادات) |
2019 | 65.7 | 135.0 (تقريبي) | 35.83 | 100% | 100% | 100% |
2020 | 8.0 | – | 10.00 | 12.2% | – | 27.9% |
2021 | 5.7 | – | 11.33 | 8.7% | – | 31.6% |
2022 | 25.3 | – | 13.58 | 38.5% | – | 37.9% |
2023 | 35.5 | – | 24.80 | 54.0% | – | 69.2% |
2024 | 32.0 | 132.0 | 39.70 | 48.7% | 97.2% | 110.8% |
ملاحظة: البيانات المتعلقة بـ “إجمالي السياح الوافدين” تشمل زوار هونغ كونغ وماكاو وتايوان. “الزوار الدوليون” في السطر الأول يشير إلى الزوار الأجانب فقط.
يُوضح هذا التباين أن التعافي الشامل للسياحة الوافدة قد تحقق بفضل التدفق القوي من هونغ كونغ وماكاو وتايوان، حيث بلغ عدد زيارات المقيمين في هذه المناطق إلى البر الرئيسي 104.96 مليون زيارة في عام 2024، وهو ما يمثل حوالي 80% من إجمالي سوق السياحة الوافدة. في المقابل، بلغ عدد السياح الأجانب (غير المقيمين في هونغ كونغ وماكاو وتايوان) 26.94 مليون سائح في عام 2024، بزيادة سنوية قدرها 96%. هذا يشير إلى أن التعافي ليس متجانساً عبر جميع الأسواق المصدرة للسياح، وأن هناك حاجة مستمرة لجذب السياح الأجانب ذوي الإنفاق المرتفع لتنويع مصادر الإيرادات.
النمو القوي في السياحة الداخلية: أعداد الزوار والإنفاق
في تناقض واضح مع التعافي المتفاوت للسياحة الدولية، شهدت السياحة الداخلية في الصين نمواً قوياً ومستداماً، مما يُشكل ركيزة أساسية لقطاع السياحة. في عام 2024، بلغ عدد السياح المحليين 5.615 مليار شخص، بزيادة قدرها 14.8% عن عام 2023. وارتفع الإنفاق على السياحة الداخلية بشكل سريع، ليصل إلى 5.75 تريليون يوان في عام 2024، بزيادة قدرها 17.1% عن العام السابق.
وصل متوسط إنفاق الفرد على السياحة الداخلية لكل رحلة إلى مستوى قياسي بلغ 1024.04 يوان في عام 2024. هذا النمو القوي في السوق المحلية يمثل محركاً رئيسياً للاقتصاد السياحي العام في الصين.
يوضح الجدول التالي إحصائيات السياحة الداخلية في الصين للعامين 2023 و2024:
الجدول 1.3: إحصائيات السياحة الداخلية في الصين (نمو 2023-2024)
السنة | عدد السياح المحليين (مليار شخص/مرة) | الإنفاق على السياحة الداخلية (تريليون يوان) | متوسط إنفاق الفرد لكل رحلة (يوان) |
2023 | 4.891 | 4.91 | 1003.88 |
2024 | 5.615 | 5.75 | 1024.04 |
كما شهدت التركيبة الديموغرافية للسياحة الداخلية تحولات ملحوظة. فقد زادت حصة سكان الريف في سوق سياحة عيد العمال من 4.5% في عام 2022 إلى 10.5% في عام 2024، وشكلوا 22.8% من إجمالي السياح المحليين في الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024. وشكل السياح في الفئة العمرية المتوسطة وكبار السن (فوق 45 عاماً) 36.81% من سوق السياحة الداخلية، حيث يسافر الجيل الجديد من كبار السن ثماني مرات في السنة في المتوسط، وينفقون آلاف اليوانات في كل رحلة. هذا التوسع في القاعدة الديموغرافية للسياحة المحلية، بما في ذلك كبار السن وسكان الريف، يُشير إلى فرص نمو جديدة وتنوع في أنماط الاستهلاك.
أصبحت السياحة بالقيادة الذاتية هي النمط الرئيسي للسفر لمسافات قصيرة ومتوسطة، حيث شكلت 80.5% من الرحلات البرية في عام 2023. هذا التنوع في أنماط السفر وتوسع القاعدة الديموغرافية للسياح المحليين يُبرز مرونة وقوة السوق الداخلية في الصين، والتي تُعد أساساً مستقراً للقطاع حتى في ظل تقلبات السفر الدولي.
تصنيف الصين المتطور عالمياً ومكانتها في السوق السياحية
تُظهر البيانات أن الصين تحتل موقعاً مهماً على الساحة السياحية العالمية، ليس فقط كوجهة رئيسية ولكن أيضاً كسوق مصدر رئيسي للسياح. في عامي 2023 و2024، احتلت الصين المرتبة الرابعة عالمياً من حيث الدول الأكثر زيارة.
علاوة على ذلك، من المتوقع أن يصل حجم صناعة السياحة في الصين إلى 2.61 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2025، مع توقع مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي من السياحة بنسبة 11.4% في نفس العام.
الأكثر لفتاً للانتباه هو أن الصين برزت في عام 2024 كأكبر دولة من حيث الإنفاق على السياحة الخارجية عالمياً، حيث أنفق مسافروها 250.6 مليار دولار أمريكي في الخارج. هذا الرقم يمثل ضعف ما أنفقه السياح الأمريكيون وثلاثة أضعاف ما أنفقه السياح الألمان. هذا الدور المزدوج كوجهة سياحية رائدة وسوق مصدر رئيسي للسياح يؤكد التأثير الكبير للصين على المشهد السياحي العالمي، ويجعل سياساتها وتفضيلات مسافريها ذات أهمية قصوى لأصحاب المصلحة في الصناعة عالمياً. هذا الموقع المزدوج يُشير إلى أن الصين لا تجذب الزوار فحسب، بل تُصدر أيضاً كميات هائلة من الإنفاق السياحي، مما يجعلها لاعباً محورياً في الاقتصاد السياحي العالمي.
الأهمية الاستراتيجية والتوقعات الاقتصادية المستقبلية
تُعد السياحة في الصين أكثر من مجرد قطاع اقتصادي؛ إنها جزء لا يتجزأ من استراتيجية الصين الأوسع لإعادة التوازن الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وتعزيز نفوذها العالمي.
السياحة كمحرك رئيسي للاستهلاك والنمو الاقتصادي الأوسع
يُنظر إلى السياحة في الصين كعامل حاسم لتعزيز النمو الاقتصادي، خاصة في سياق التحولات الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد. تُشير التوقعات إلى أن انتعاش أعداد المسافرين الدوليين يمكن أن يفتح الباب أمام فرصة إيرادات تبلغ تريليونات الدولارات للاقتصاد الصيني.
تتوقع مورغان ستانلي أن إيرادات السياحة في الصين يمكن أن تتجاوز 500 مليار دولار أمريكي في عام 2033، مما يترجم إلى إيرادات تراكمية تبلغ 2.8 تريليون دولار أمريكي على مدى 10 سنوات، مقارنة بـ 131 مليار دولار أمريكي في عام 2019. يُتوقع أن تساهم السياحة الوافدة بما يصل إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي للصين خلال العقد المقبل، وهو ارتفاع كبير من أقل من 1% سابقاً. هذا التركيز على السياحة كدافع للنمو يشير إلى تحول استراتيجي في النموذج الاقتصادي الصيني، حيث كان النمو السابق يعتمد بشكل كبير على صادرات السلع، لكنه تخلف في صادرات الخدمات. تعزيز السياحة، وهي خدمة تصدير رئيسية، يمكن أن يساعد في إعادة توازن الاقتصاد، وتقليل الاعتماد على التصنيع، وتخفيف الاحتكاكات التجارية المحتملة. هذا يُوضح أن السياحة تُعد مكوناً حاسماً في إعادة هيكلة الصين الاقتصادية الأوسع نطاقاً وأداة لتحقيق نمو مستدام.
توقعات الإيرادات المستقبلية ومساهمة الناتج المحلي الإجمالي
تُظهر التوقعات المستقبلية طموح الصين في تعزيز مكانتها السياحية بشكل كبير. فمن المتوقع أن ترتفع الإيرادات من المسافرين الدوليين من 77 مليار دولار أمريكي في عام 2019 إلى 431 مليار دولار أمريكي في عام 2033.
كما يُتوقع أن تتوسع حصة الصين من السياح العالميين لتصل إلى 6% بحلول عام 2033، مقارنة بـ 2.4% في عام 2019. هذه الأهداف الطموحة تُشير إلى نية الصين في زيادة جاذبيتها كوجهة سياحية عالمية بشكل كبير، مما يعني استثمارات وسياسات استباقية لجذب شريحة أكبر من سوق السياحة العالمية. هذا التركيز على إيرادات المسافرين الدوليين يُبرز أيضاً إدراك الصين لقوتهم الشرائية العالية مقارنة بالزوار الإقليميين.
دور السياحة في استراتيجية الصين لتصدير الخدمات
يُعد تعزيز صادرات الخدمات، بما في ذلك السفر والسياحة، استراتيجية حيوية يمكن أن ترفع الاقتصاد ككل. هذا النهج يساهم في الحد من التأثيرات السلبية المحتملة الناجمة عن المخاوف الأمنية المعلوماتية والاحتياطات التجارية المرتبطة بفئات أخرى في قطاع الخدمات.
هذا التوجه يشير إلى أن السياحة لا تُعد مجرد صناعة اقتصادية، بل أداة قوة ناعمة، تعزز التفاهم الدولي والعلاقات الاقتصادية بطريقة أقل إثارة للجدل مقارنة بقطاعات أخرى. بالتالي، تُمثل السياحة عنصراً محورياً في السياسة الخارجية الاقتصادية والدبلوماسية للصين. هذا يُبرز كيف تُستخدم السياحة كأداة استراتيجية لتحقيق أهداف أوسع تتجاوز مجرد النمو الاقتصادي، مما يُعزز مكانة الصين على الساحة العالمية.
الخاتمة
لقد قطعت الصين شوطاً طويلاً في رحلتها السياحية، متحولة من ممارسات السفر القديمة إلى قوة سياحية حديثة، مدفوعة بتحولات سياسية استراتيجية وتطوير هائل للبنية التحتية. يبرز دورها المزدوج الحالي كوجهة عالمية رائدة وأكبر سوق للسياحة الخارجية، مما يؤكد مساهمتها الاقتصادية الكبيرة وإمكانات النمو المستقبلية.
تُعد السياحة عنصراً حاسماً في إعادة التوازن الاقتصادي للصين، وخلق فرص العمل، وتحقيق أهداف القوة الناعمة الأوسع نطاقاً. ومع استمرار الصين في تعزيز بنيتها التحتية وتكييف سياساتها مع ديناميكيات السوق العالمية، فإنها مهيأة لمواصلة نموها وتأثيرها في المشهد السياحي العالمي.