ازدادت التجارة الخارجية للصين بمعدل مذهل خلال العقود الأخيرة لتصبح الصين أحد أبرز اللاعبين في التجارة الدولية، حيث تحتل المركز الأول عالميًا في الصادرات والثاني في الواردات. تشمل التجارة الخارجية للصين شبكة واسعة من الشركاء التجاريين والقطاعات التصديرية الرائدة، إلى جانب مشاركتها النشطة في الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف ومبادرات البنية التحتية العالمية. ومع تنامي دور الصين التجاري، برزت أيضًا احتكاكات ونزاعات مع بعض الدول في سياق التنافس الاقتصادي والجيوسياسي.
أهم الشركاء التجاريين: شهدت تركيبة شركاء الصين التجاريين تحولًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة. فبحسب بيانات عام 2024، أصبحت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) الشريك التجاري الأكبر للصين بإجمالي تبادل يقارب 982 مليار دولار، تليها الاتحاد الأوروبي بحوالي 786 مليار دولار، ثم الولايات المتحدة بحوالي 688 مليار دولار. وتشمل قائمة الشركاء الرئيسيين الآخرين كلاً من كوريا الجنوبية واليابان وتايوان وفيتنام وروسيا وأستراليا وغيرها. هذا التنوع يعكس توسع علاقات الصين مع الاقتصادات النامية والمتقدمة على حد سواء. فمن جهة، نمت التجارة مع جيران الصين الآسيويين بشكل سريع – خاصة مع دول جنوب شرق آسيا – مدفوعةً باتفاقية التجارة الحرة بين الصين وآسيان منذ 2010 وتعزيز مبادرة الحزام والطريق. ومن جهة أخرى، حافظت الأسواق التقليدية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أهميتها للصادرات الصينية رغم التوترات التجارية في السنوات الأخيرة. الجدير بالذكر أن حصة الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق من إجمالي التجارة الصينية بلغت نحو 46.6% في عام 2023، بزيادة 1.2 نقطة مئوية عن العام السابق. وقد ارتفع حجم التجارة بين الصين وهذه الدول إلى 19.47 تريليون يوان (حوالي 2.74 تريليون دولار) في 2023، مما يؤكد تنامي اعتماد الصين المتبادل تجاريًا مع الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. وعلى سبيل المثال، نمت تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية وأفريقيا بأكثر من 6% خلال 2023 مدفوعة بزيادة واردات الصين من السلع الأساسية كالنفط والمعادن.
صادرات وواردات الصين: تتنوع المنتجات الصينية المصدرة ولكن تظل السلع الصناعية والإلكترونية المكون الرئيسي. تشمل أهم بنود الصادرات الصينية هواتف المحمول والأجهزة الإلكترونية (تمثل حوالي 7.6% من إجمالي الصادرات)، وأجهزة الحاسوب (4.4%)، والدوائر المتكاملة الإلكترونية (4.0%)، بالإضافة إلى المركبات الآلية (2.3%) والبطاريات والمعدات الكهربائية (2.1%). هذا يعكس مكانة الصين كمصنع عالمي للإلكترونيات والاستهلاكيات التقنية. كما برزت في السنوات الأخيرة صادرات المعدات ذات القيمة العالية كالمركبات الكهربائية والروبوتات الصناعية، حيث ارتفعت صادرات المنتجات عالية التقنية بأكثر من 40% عام 2024. في المقابل، تتكون واردات الصين بشكل رئيس من المواد الخام والسلع الوسيطة اللازمة للصناعة. فالصين تستورد كميات ضخمة من أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية (حوالى 13.7% من إجمالي الواردات) لتغذية مصانع الإلكترونيات لديها، إلى جانب النفط الخام (13.2%) لتلبية احتياجاتها من الطاقة، وخام الحديد (5.3%) لصناعة الصلب، وكذلك الذهب والغاز الطبيعي وغير ذلك. هذه التركيبة التجارية تؤكد اعتماد الصين على استيراد الموارد الطبيعية من الخارج لدعم قاعدة تصنيعها الكبيرة، وفي الوقت نفسه تصدير كمٍ هائل من السلع المصنعة إلى الأسواق العالمية. وقد سجلت الصين على مدار سنوات فائضًا تجاريًا كبيرًا؛ فميزانها التجاري الإيجابي تراوح بين 2.2% إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في السنوات الأخيرة.
السياسات التجارية للصين: انتهجت الصين سياسة انفتاح تجاري تدريجي منذ الثمانينيات، تُوّجت بانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية (WTO) عام 2001. ومنذ ذلك الحين، استفادت الصين بشكل كبير من نظام التجارة متعدد الأطراف لزيادة صادراتها، مع الالتزام بتخفيض التعريفات الجمركية وإزالة العديد من القيود غير الجمركية وفق شروط انضمامها. وعلى الرغم من ذلك، حافظت الحكومة على بعض السياسات الصناعية لدعم القطاعات الإستراتيجية محليًا – مثل منح إعفاءات وحوافز للصناعات التكنولوجية – ما أثار جدلاً في المحافل التجارية حول مدى توافق تلك السياسات مع مبدأ المنافسة العادلة. وفي السنوات الأخيرة، برز توجه صيني نحو عقد اتفاقيات تجارة حرة إقليمية لتأمين أسواق جديدة وتخفيف الاعتماد على الأسواق التقليدية. ففي نوفمبر 2020، وقّعت الصين مع 14 دولة آسيوية ومحيطية اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، والتي تعد أكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم من حيث الناتج (تغطي نحو 30% من الاقتصاد العالمي). تضم RCEP دول آسيان العشر بالإضافة إلى الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا (وكانت الهند مشاركة في المفاوضات لكنها انسحبت قبل التوقيع). توفر هذه الاتفاقية إطارًا موحّدًا لخفض الرسوم الجمركية وتسهيل التبادل التجاري والخدمي والاستثماري بين تلك الدول. وتُعوّل الصين على RCEP لتعزيز اندماجها الاقتصادي مع جوارها الآسيوي وتعويض أي تراجع في أسواق أخرى. إلى جانب ذلك، أبدت الصين اهتمامًا بالانضمام إلى اتفاقيات تجارية متقدمة مثل الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) عبر تقديم طلب رسمي في عام 2021. وعلى المستوى الثنائي، لدى الصين اتفاقيات تجارة حرة مع عدد من الدول مثل أستراليا (وُقّعت 2015) وكوريا الجنوبية (2015) وتشيلي وباكستان وغيرها، مما يساعد على تنويع العلاقات التجارية وخفض العوائق أمام الصادرات والواردات.
دور مبادرة الحزام والطريق: تمثل مبادرة الحزام والطريق (BRI) عنصرًا أساسيًا في استراتيجية الصين التجارية والجيوسياسية منذ إعلانها عام 2013. تهدف المبادرة إلى تطوير البنية التحتية وربط الأسواق عبر إنشاء “حزام” بري يربط الصين بآسيا الوسطى وأوروبا عبر شبكة سكك حديد وطرق سريعة، و“طريق” بحري يربط الموانئ الصينية بأفريقيا وأوروبا عبر المحيط الهندي. وحتى مطلع 2024، تجاوز عدد الدول المنضمة رسميًا للمبادرة 140 دولة، تمثل حوالي 75% من سكان العالم وأكثر من نصف الناتج العالمي استثمرت الصين عبر هذه المبادرة مبالغ هائلة في مشاريع سكك حديدية وموانئ ومناطق صناعية في آسيا وأفريقيا وأوروبا الشرقية – وبلغ إجمالي استثماراتها والتزاماتها نحو 1.05 تريليون دولار خلال العقد الأول من المبادرة. انعكست هذه الجهود في تعزيز التجارة مع دول الحزام والطريق كما سبق ذكره، حيث توفر المشاريع الجديدة قدرات لوجستية أكبر وزمن شحن أقل، مما يسهل تدفق السلع. على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة تشغيل مئات خطوط قطارات الشحن المباشر بين مدن صينية (مثل شيآن وتشونغتشينغ) ومدن أوروبية (مثل دويسبورغ وهامبورغ)، مما قلّص مدة نقل البضائع البرية إلى أقل من نصف المدة البحرية. كذلك استفادت الصين من مبادرة الحزام والطريق لتأمين مصادر الطاقة والمعادن عبر اتفاقيات طويلة الأجل مع البلدان المنتجة وتطوير ممرات نقل آمنة لها. ومع أن المبادرة واجهت بعض التحديات – مثل مخاوف من مديونية بعض الدول المشاركة أو توقف بعض المشاريع – إلا أنها أسهمت في فتح أسواق جديدة أمام المنتجات الصينية وفي زيادة قابلية استخدام اليوان الصيني في التسويات التجارية مع تلك الدول.
الاحتكاكات والنزاعات التجارية: على الرغم من خطاب الصين الرسمي الداعم للعولمة وللنظام التجاري متعدد الأطراف، إلا أن صعودها الاقتصادي السريع خلق احتكاكات مع بعض الشركاء. أبرز تلك النزاعات تمثل في الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي اندلعت في 2018؛ حيث فرضت واشنطن رسومًا جمركية مرتفعة على بضائع صينية تفوق قيمتها 300 مليار دولار سنويًا، وردّت بكين بإجراءات مماثلة على وارداتها من الولايات المتحدة. ورغم التوصل إلى “اتفاق المرحلة الأولى” في يناير 2020 الذي نص على زيادة الصين مشترياتها من المنتجات الأمريكية، إلا أن معظم التعريفات بقيت قائمة. أضف إلى ذلك، تصاعد الخلاف إلى مجال التكنولوجيا مع قيام الولايات المتحدة بفرض قيود على تصدير أشباه الموصلات المتقدمة والتقنيات الحساسة إلى الصين، واستهداف شركات صينية مثل Huawei وTikTok بحجج الأمن القومي. هذا التوتر التجاري التقني أثار مخاوف لدى الصين ودفعها لتسريع جهود تحقيق الاكتفاء التقني الذاتي في صناعات الرقائق والبرمجيات وغيرها. بجانب الولايات المتحدة، شهدت العلاقات التجارية مع دول أخرى توترات أيضًا؛ فعلى سبيل المثال، فرضت الصين في 2020 رسومًا عقابية على واردات الشعير والنبيذ من أستراليا وسط خلاف سياسي، ما أدى إلى شبه توقف تلك الصادرات. وبعد تحسن العلاقات لاحقًا، رفعت الصين هذه الرسوم عام 2023-2024 وعادت تجارة السلع الأسترالية إلى طبيعتها. وفي أوروبا، برزت مخاوف بشأن واردات السيارات الكهربائية الصينية المدعومة؛ حيث أطلق الاتحاد الأوروبي تحقيقًا في دعم الدولة الصينية لقطاع السيارات الكهربائية بهدف فرض رسوم وقائية إذا ثبت الإغراق. كما لم تكن العلاقات التجارية مع الهند بمنأى عن التوتر، إذ بعد مواجهات حدودية في 2020 اتخذت نيودلهي إجراءات لتقييد الاستثمارات الصينية وحظرت عشرات التطبيقات الصينية، مما أدى إلى تباطؤ في نمو التجارة الثنائية. ومع ذلك، لا تزال المنافع المتبادلة تدفع باتجاه احتواء تلك الخلافات؛ فالصين وأطرافها التجارية تعتمد كل منها على الأخرى – الصين كسوق ضخمة ومورد رئيسي في سلاسل الإمداد العالمية، وشركاؤها للحصول على السلع الصينية أو بيع المواد الخام.

بالنظر إلى المستقبل، يُتوقع أن تواصل الصين تعزيز مكانتها في التجارة الخارجية ولكن مع تحول نوعي نحو التركيز على القيمة المضافة العالية بدلاً من الكمية. إذ تؤكد الخطط الحكومية (مثل “صُنع في الصين 2025”) على ترقية هيكل الصادرات ليشمل مزيدًا من المنتجات التقنية والمتخصصة، وتقليل الاعتماد على الصناعات كثيفة الطاقة والتلوث. كما تسعى الصين لتنويع أسواقها تجنبًا للمخاطر – وذلك عبر آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية – وعدم الارتهان لسوق واحد. ومن المتوقع أيضًا أن تستثمر الصين موارد أكبر في تطوير قطاع الخدمات ليصبح جزءًا أهم من تجارتها الخارجية (مثل تصدير الخدمات المالية والسياحية), حيث لا تزال صادرات الخدمات أقل من وارداتها حتى الآن. وعلى الرغم من التحديات الجيوسياسية، تبقى الصين لاعبًا تجاريًا لا غنى عنه في الاقتصاد العالمي، مدعومةً ببنية تحتية لوجستية متطورة وقاعدة إنتاجية هائلة وشبكة اتفاقيات واسعة. وستظل قدرتها على إدارة النزاعات التجارية والتكيف مع قواعد التجارة الدولية الجديدة عاملاً حاسمًا في الحفاظ على نمو تجارتها الخارجية واستقرارها.