الاقتصاد الرقمي في الصين

شهد الاقتصاد الرقمي في الصين نموًا ليصبح ركيزة أساسية في مسيرة التنمية الوطنية. فهو يشمل التجارة الإلكترونية والتكنولوجيا المالية والاتصالات وغيرها، ويساهم بنحو 42.8% من الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2023، مرتفعًا من 27% فقط في عام 2015. وقد تبنّت بكين مبادرات مثل «الإنترنت بلس» و«الصين الرقمية» لتسخير التقنيات الرقمية كمحرك جديد للنمو.

أولت القيادة الصينية أولوية للتحول الرقمي عبر سياسات إستراتيجية. فقد حددت الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021–2025) هدف رفع نسبة القيمة المضافة للصناعات الرقمية الأساسية إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025 – وهو هدف تحقق قبل الموعد بعامين في 2023. ويدعو هذا المخطط الوطني إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية المعلوماتية (مثل شبكات الجيل الخامس ومراكز البيانات) وتعزيز اعتبار البيانات عاملًا إنتاجيًا، إلى جانب تعميق التكامل بين التكنولوجيا الرقمية والاقتصاد الحقيقي. كما يؤكد على بناء مدن ذكية وقرى رقمية بخدمات متطورة، وتحسين أمن الشبكات وحوكمة البيانات بالتوازي مع تعزيز التعاون الرقمي الدولي.

على سبيل المثال، توسعت البنية التحتية الحاسوبية في الصين بسرعة – حيث بلغت القدرة الحوسبية الوطنية نحو 230 إكسا-فلوبس في عام 2023 مما يضع الصين في المرتبة الثانية عالميًا. كما أنتجت البلاد كمًا هائلًا من البيانات بلغ 32.8 زيتابايت عام 2022 بزيادة سنوية 22% تقريبًا، مدفوعًا بالانتشار الواسع للهواتف الذكية وشبكات الجيل الخامس وانتعاش المحتوى الرقمي. وقد تغلغلت التقنيات الرقمية بعمق في مختلف قطاعات الاقتصاد والمجتمع في الصين، مما أسهم في نشوء قوى إنتاجية جديدة وتحسين الكفاءة.

في فعاليات رفيعة المستوى مثل معرض التجارة الرقمية العالمي، تستعرض الصين قدراتها الرقمية من خلال عروض تمتد من روبوتات مزودة بالذكاء الاصطناعي إلى أنظمة مرور ذكية. فقد استقطب هذا المعرض في هانغتشو عام 2024 أكثر من 1,500 شركة وكشف عن مئات المنتجات التقنية الجديدة، مما أبرز أحدث الابتكارات والتطورات في قطاع الاقتصاد الرقمي وحققت الصناعات الرقمية الصينية مجتمعةً إيرادات قدرها 32.5 تريليون يوان في عام 2023، مما يعكس نموًا وازدهارًا قويًا في مجالات كالتجارة الإلكترونية والحوسبة السحابية والخدمات عبر الإنترنت. وتؤكد مثل هذه المعارض طموح الصين لأن تكون رائدة عالميًا في الاقتصاد الرقمي.

يقود هذه النهضة الرقمية شركات مبتكرة ونماذج أعمال جديدة. فقد أنشأت عمالقة التكنولوجيا مثل علي بابا وتينسنت وبايدو وجي دي.كوم وغيرها منصات هائلة للتجارة عبر الإنترنت والمدفوعات والإعلام الاجتماعي والحوسبة السحابية ويستخدم قرابة مليار مستهلك صيني الآن تطبيقات الدفع عبر الهاتف بدلاً من النقد، وتواصل مبيعات التجارة الإلكترونية ارتفاعها – بما في ذلك ظهور توجهات جديدة مثل التجارة عبر البث الحي التي تربط التجار والمشترين مباشرةً. ففي إحدى المعارض التجارية الأخيرة، روّج مندوبو مبيعات صينيون عبر بث فيديو حي لمنتجات أفريقية لجمهور من المتسوقين على الإنترنت في الصين، في مثال على كيفية تعزيز المنصات الرقمية للتجارة عبر الحدود كما حازت شركات صينية مثل Shein وتطبيق Douyin (نظير تيك توك المحلي) على شهرة عالمية، ما يعكس امتداد النفوذ الرقمي للصين إلى خارج حدودها.

ولتأمين استدامة هذا النمو، تُضخ استثمارات هائلة في البنية التحتية الرقمية والابتكار. فقد أطلقت الحكومة مبادرة «البنية التحتية الجديدة» ورصدت نحو 10 تريليونات يوان (حوالي 1.4 تريليون دولار) حتى عام 2025 لبناء شبكات فائقة السرعة ومراكز بيانات ومنصات إنترنت صناعي وتقنيات المدن الذكية وازدهرت أيضًا استثمارات القطاع الخاص – إذ تحتضن الصين عشرات الشركات التقنية الناشئة «يونيكورن»، وشهدت صناديق رأس المال المُغامر تمويلًا كبيرًا لشركات ناشئة في مجالات التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية. وبالتوازي، يقوم بنك الشعب الصيني بتجربة عملة رقمية سيادية (اليوان الرقمي) في العديد من المدن، مما يعكس دعم السلطات للابتكار في التكنولوجيا المالية. وتهدف كل هذه الجهود إلى ترسيخ أسس اقتصاد رقمي في المقام الأول.

رغم التقدم المذهل، يواجه الاقتصاد الرقمي الصيني تحديات عديدة. فقد شددت السلطات التنظيم على قطاع التكنولوجيا الضخم في السنوات الأخيرة – لمعالجة ممارسات احتكارية ومخاطر أمن البيانات – عبر خطوات منها فرض غرامات لمكافحة الاحتكار على شركات كبرى (دفعت شركة علي بابا غرامة قياسية بلغت 2.8 مليار دولار) وسن قوانين جديدة لحماية الخصوصية. وقد أدت هذه «الحملة التصحيحية» بين 2020 و2022 إلى تباطؤ الاستثمارات وتعرض بعض الشركات لانتكاسات مؤقتة، مثل عملاق النقل التشاركي Didi الذي أُزيل تطبيقه من المتاجر أثناء مراجعة أمن سيبراني. لكن بحلول 2023 أظهرت السياسات الرسمية اتجاهًا أكثر دعمًا، إذ باتت المنصات الرقمية تُعتبر محركات أساسية للنمو. يتمثل تحدٍ آخر في تحقيق الاعتماد الذاتي تكنولوجيًا: فقيود التصدير على أشباه الموصلات المتقدمة دفعت الصين إلى تسريع تطوير الرقائق محليًا، وهي مهمة بالغة الأهمية لاستمرار الابتكار الرقمي مستقبلًا. علاوة على ذلك, يتعين على الحكومة الموازنة بين الرقمنة السريعة وردم الفجوة الرقمية (كي لا تُترك المناطق الريفية وكبار السن خلف الركب) إلى جانب تحصين الفضاء السيبراني ضد التهديدات.

أما في المستقبل، فترى الصين فرصًا هائلة في الاقتصاد الرقمي لتعزيز تنميتها الوطنية ومكانتها العالمية. ومع انتشار الأتمتة والذكاء الاصطناعي، يمكن للاقتصاد الرقمي المساعدة في تعويض نقص اليد العاملة الناتج عن شيخوخة السكان عبر رفع الإنتاجية في المصانع والخدمات. ويَعِد دمج التقنيات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والبيانات الضخمة بالقطاعات التقليدية (من الزراعة إلى التصنيع) بفتح مجالات نمو جديدة وتحسين الكفاءة. وعلى الصعيد الدولي، تصدّر الصين من خلال مبادرة «طريق الحرير الرقمي» بنيتها التحتية ومعاييرها الرقمية إلى الخارج – من شبكات الجيل الخامس في آسيا إلى منصات التجارة الإلكترونية في إفريقيا – لتوسيع نفوذها. وبحلول 2035، تطمح الصين إلى تحديث اقتصادها بالكامل بالاعتماد على التكنولوجيا الرقمية، كما تهدف بحلول 2030 إلى أن تصبح مركزًا عالميًا للابتكار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي. وإذا أحسنت الصين مواجهة التحديات، فإن اقتصادها الرقمي مرشح لمواصلة توسعه السريع، حاملاً فرصًا هائلة لريادة الأعمال وتحسين جودة الحياة لمواطنيها.